قتل النساء: كي لا تقولوا إننّا "لا نعلم"
تدعيّ الأغلبية من أبناء وبنات شعبنا، أنَّ قتل النساء – عادة بمسمىّ الشرف- ليس أمرًا يمكن تسميته بـ"الظاهرة". وهناك من يذهب أبعد من ذلك ليتظاهر بأنّه أصلاً لم يسمع في حياته عن الموضوع، بينما تعرف كل امرأة – تقريباً بشكل طبيعي– أنه في حال "تمادت" (والحدود هيولية، غير معروفة دائما، وبإمكانها أن تتغير من قرية أو مدينة أو عائلة إلى أخرى) فإنَّ "عقوبة الموت" أو على الأقل عنفا ما سيهدّدها.
يبدو إذًا، وللوهلة الأولى، أننّا نعيش في مجتمعين، أو مجتمعٍ واحدٍ يعاني انقسامًا شديدًا. فبين مشاعر ومخاوف النساء فيه، وبين الآراء "العلنية" التي تلغي وجود الظاهرة من أصلها ثمّة فرق شاسع ومريب.
ما نسمعه على الملأ، إن كان في الشارع أو في المدرسة أو في التجمعات وما إلى ذلك – تُمثل النساء جزءًا منها– يتغاضى عادة ويزيل عن الموضوع أية أسس موضوعية وجديّة ويُخفي حدوثه، وإن قَست الظروف واستُعِملت الدلائل– وهي في عصرنا الأرقام!- تتراجع الأفواه قائلة: "آه، هذا في القرية الفلانية، أو لدى الطائفة تلك". المهم، المقولة تقول: "إنَّ هذا لم ولن يكون في دائرتنا" حتى تحدث المصيبة التالية.
هذه حقيقة، ليس انقساما في شخصية الأفراد في المجتمع أو ازدواجية مجتمعيّة، حتى لو كانت الازدواجية من سماته. إنه النفيّ، الإخفاء والصمت الذي يغطيّ على الظاهرة، أي التنكّر لوجودها أصلاً، وبهذا تكون الفرصة سانحة لإعادة صناعتها وتشريعها. بكلمات أخرى، هذه هي الطريقة المثلى لاستمرار الظاهرة وازديادها مع مرور السنين. طريقة الصمت عنها، إنكار وجودها والتعامل معها كخيال من صنع قلّة قليلة من النسويات. بالضبط، لأنها جريمة بشعة ونكراء، ولأنَّ القتل في هذه الحالة أداة اجتماعية – أي أنها تأديبية وتخويفيّة للأجيال اللاحقة- يستمر المجتمع بممارستها "سرًا" حتى يبقي ردعه وقوة قبضته على نسائه، وفي نفس الوقت يُنكرها، فهي جريمة، أليس كذلك؟ّ!.
طبعاّ السر ليس سرًّا، لأنّ من تذرّع بالشرف ليقتل بحاجة إلى علانيّة ما، إلى من يبارك فعلته هذه، وإن كانت على صعيد العائلة المصغرّة، حتى إتمام ما شاء (يُسمي هذه عبدة الأوثان الاجتماعية: أن يغسل الدم العار؟ّ). فالرسائل الضمنيّة والخطاب الاجتماعي السائد يتمحور حول ترهيب وتخويف المرأة وإشعارها بأنَّها مُراقبة طِيلة الوقت من قبل الجميع، فكل المجتمع جنود مخلصون في أداء المهمة، ومن أجل هذا، وكما يفقه الجنود فالقتل أداة حتى لو كانت ضد القلّة وحتى لو استعملت بين الفينة والأخرى، فهي تؤدي دورها للتذكير والتأكيد على وجودها وإمكانية استعمالها (كما في الأنظمة التوتاليتارية مثلا)، لهذا فهي ظاهرة ولكنها مخفيّة أيضاً.
طبعًا الجاني بذاته لا ينكر الجريمة دائماً، غالباً من يرتكب هذه الجريمة يعي بأنّ الزنزانة تقترب إليه، وتعرف الشرطة (ليس هذا المكان لتناول دورها السلطوي في تعزيز العنف في مجتمعنا وتقديم العون للجاني بشكل غير مباشر) بأنّ في حالة قتل فتاة، أية فتاة، في المجتمع العربيّ، فليسوا بحاجة إلى عدسة مكبّرة وشارلوك هولمس ليفهموا أن عليهم البحث عن القاتل في تخوم العائلة.
كم هو قاسٍ واقع النساء في هذا المجتمع، وكم هي مؤلمة الحقيقة حين تعتقد كل امرأة أن يد أخيها أو أبيها أو ابن عمّها أو في بعض الحالات أمها، قد تمتد يومًا لتطال حياتها. العائلة، والمفترض بأن تكون مأواها من إيذاء الآخرين، قد تنهي يومًا حياتها كونها "لا تستحمل عيون الجيران" والتي أصلا لم تتوقف عن النظر لثوانٍ، بل أكثر من ذلك يعلم الأهل، كما الجيران، كما كل مجتمعنا، أن "القيل والقال" هي من خصالنا التبشيرية التي لا تنتهي حتى لو كنا نعرف أنها كاذبة من بدايتها وحتى نهايتها.
12 امرأة في السنة، كل سنة، يُقتلن بدم بارد وبصمت مؤجج، وهذه ظاهرة. مئات وآلاف النساء يعشن في ظل التهديد المستمر، هذه أيضا ظاهرة. والمظاهرة التي ستقام يوم السبت القادم في السادس من شباط في الناصرة، تأتي لخلع غطاء الظاهرة وتعريّتها على الملأ، رؤيتها، مواجهتها في وضح النهار، وهذا سيساعدنا كمجتمع لنرى حقيقتنا معرّاة ونقرر: هل نريد أن نكون مجرمين ومجرمات أم سنوقف هذه الظاهرة؟ لن يسعُنا الإنكار بعد.
فإن سُئلتم في المرة القادمة عن الموضوع، قولوا نعلم عن الظاهرة ونشجب بشدة: ليذهب القتلة إلى الجحيم!
**
بقلم ياسمين ظاهر
محاضرة في جامعة بيرزيت