مصر:إكرام يوسف تكتب : أهنتم أمهاتكم
يقول شاهد عيان أن ضابطا سب الشهيد محمد الجندي بأمه، فكانت الطامة الكبرى عندما رد عليه الجندي سبابه، وارتقى بعهدها شهيدا مكتمل الكرامة رائع الكبرياء! وتقول أم الطفل عبد الرحمن (15 عاما) المعتقل في الاسكندرية، أنها ذهبت لزيارة ابنها، فمنعت من زيارته، وعندما توسلت للضابط أهانها وسبها بأمها، وعندما قالت له إن أمه ليس أفضل من أمها، إنهال عليها ضربا وركلاً! وويبدو أن بعض من يحتمون ببذلاتهم ورتبهم، لم ينتبهوا بعد أن ثورة قامت في البلاد، لن يقبل المصريون بعدها ممارسات سادية، كان يقترفها ضدهم من لا يعرفون معنى للكرامة!
ويستطيع الأطباء النفسيون شرح دلالة أن يتلذذ أحدهم ـ مسلحًا بمنصبه وسلاحه، ووسط جنوده ـ بتعذيب أسير أعزل، إذ يوقن الجلاد من داخله أن أسيره أشرف منه وأكثر رجولة؛ فلا يهابه ولا يأبه لجنوده، و لا يخاف ممن هم أعلى منه يدوسون كرامته، ويسومونه المهانة.ويعلم الجلاد أن أسيره يمتلك ما ينقصه: كرامة تجعله يقف ثابتا قويا ليقول قولة الحق في وجه سلطان جائر! بينما ترتعد أوصال الجلاد، إذا مر من أمامه رتبة أعلى، وقد يريق ماء وجهه توسلا ، وتزلفا عندما يحين موعد حركة التنقلات أو الترقيات. ويعرف الجلاد أنه لا يستطيع أن يصمد في مواجهة أسيره، رجلا لرجل بعيدا عن جنوده؛ ولأنه يفتقر إلى شروط الرجولة الحقيقية، فهو يستبدل بها مفهوم الذكورة الذي يرتبط في وعيه بالقوة، مقارنة بضعف الإناث! ولا شك أن شخصًا كهذا لا يحمل أدنى قدر من الاحترام لنساء أسرته، وأمه بالذات؛ وربما يشك بعضهم في شرف نساء أسرته، فيمعن في إسقاط عقدته على من يوقعه الحظ مكبلا بين يديه، يفرغ فيه إحساسه بالهوان، ويستشيط غلاً وحقدًا كلما بدا أسيره رابط الجأش، رافع الرأس.ولا شك أن من تربى على احترام أمه ويثق في شرفها، لن يتجاسر على سب أي أم، أما من تربى على احتقار أمه، سوف يريحه أن يساوي أمهات الأخرين بها، ليخفف إحساسه بالنقص. ومن ثم، فعلى كل أم شاء حظها أن يتولى ابنها منصبا يتيح له السيطرة على آخرين، أن تراجع نفسها جيدا، وتراجع تربيتها لابنها، لأن كل ما يفعله مع الآخرين سوف تدفع ـ إن آجلا، أو عاجلا ـ جانبا من ثمنه! وسوف تضعها تربيتها في مقارنة مع من ربت رجلا حقيقًا، يعرف قيمة الكرامة ولا يخشى في الله لومة لائم. وفي الحديث الشريف" إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه، قال يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه". ولا شك أنه ما من مرة سب فيها ضابط أو مسئول مواطنا، إلا ورد عليه المواطن بمثلها وأكثر منها؛ إن لم يكن في وجهه علنا، ففي قلبه، وهذا أضعف الإيمان، أو بين معارفه! ومن ثم، فمن تأبى كرامته أن يهان أبوه وأمه، لن يتجرأ على إهانة أمهات أوآباء الآخرين! ومامن ضابط تجرأ على سب أم أسير، إلا وكان جبانا، يشعر بالنقص أمام أسيره، ولا يحمل داخله أدنى احترام لأمه أو ثقة فيها!وبمناسبة الحديث عمن يحتمون برتبهم وجنودهم، أتذكر وقفة الشهيد خالد سعيد أمام وزارة الداخلية في أكتوبر 2010؛ كانت الوقفة تضم الشباب والفتيات، ونسبة كبير من أبناء وبنات جيلي. وبعد فترة من الهتاف بسقوط وزير التعذيب، وسقوط النظام، أقامت قوات الأمن "كردونا" حول المظاهرة. وبين حين وآخر كان الجنود يهجمون فجأة، فيضيق الكردون على نحو يوقع الاضطراب في جسم المظاهرة، ووسط الهرج ينقض أحد عملاء أمن الدولة، ليختطف شابًا من قيادات المظاهرة، ويخرج به إلى سيارة ترحيلات تقف على مسافة غير بعيدة. وبعد فترة، انخفض عدد الشباب إلى أقل من أصابع اليد الواحدة، وصار الجسم الرئيسي للمظاهرة، مكونا من عدد من الفتيات والسيدات الأكبر سنا. وشعر الجميع بالتعب، وكان سكان العمارات المجاورة يتابعون المشهد من نوافذ بيوتهم. وبين حين وآخر تنهال علينا زجاجات المياه، يلقيها السكان دعما للمتظاهرين الذين نال منهم العطش. وكنت بقرب ضابط الأمن المركزي الذي تحاصرنا قواته، وأرى ضباط مباحث أمن الدولة ومخبريهم على مرمى البصر خارج الكردون. تقدمت سيدة كبيرة في السن من الضابط قائلة أنها تعبت وتريد الخروج من المظاهرة، فأفسح لها مكانا خرجت منه. وفورا، لمحت ضابط المباحث الواقف بعيدا يستدعيه. وعاد ضابط الأمن المركزي وقد تصلبت ملامحه ووقف عاقدًا يديه أمام صدره، ناظرا إلى اللاشيء. تقدمت منه شابة تقول انها طبيبة وحان موعد نوبتها في المستشفى وتريد الخروج، فلم يلتفت إليها، ولم تظهر ملامحه أنه يسمعها أصلا. وعندما صرخت فيه غاضبة، قلت لها: "القرار مش بإيده، مالوش ذنب" فنظر متألمًا لي كمن يقول "قولي لها"، عدت لأقول لها"احنا احتمال نعتقل دلوقت، وهمه مستنيين الأوامر" فنظرت لي بغضب قائلة "ممكن أعرف حضرتك منشكحة كده ليه؟" قلت لها انني غير منشكحة، لكنني أنبهها لما سيحدث. وعندما وجدت المشهد تجمد على مجموعة من السيدات كبار السن والشابات، يحوطها عدد أكبر من رجال الأمن؛ وقفت فوق سور حديقة الميدان الحجري أوجه كلامي لسكان العمارات الواقفين في نوافذها، وإلى ضباط أمن الدولة ـ بالذات ـ الذين يحتمون وسط جنودهم، وإلى الجنود. قلت لهم أن وزير الداخلية مذعور، وريس الجمهورية مذعور، والدولة مذعورة؛ ولو لم تكن مذعورة لما وقف كل هذا الجيش يحيط بمجوعة من البنات والسيدات، لا تحمل واحدة منهن شفرة حلاقة تخيف بها أحدا. وقلت للجنود المحيطين بضابط أمن الدولة "هؤلاء الضباط الذين يحتمون بكم، سوف يدوسونكم، ويهربون، ويتركونكم كباش فداء بمجرد سقوط النظام قريبا". ثلاث ساعات ونصف الساعة، ثم جاء أمر السماح لنا بالخروج، ولكن فرادى! قلت لضابط الأمن المركزي "دولة الظلم ساعة..هانت، باقي دقائق"، لم أندهش عندما غمغم "من بقك لباب السما"! وعندما مررت بضابط المباحث خارج الكردون كررت العبارة، ثم قلت"نتقابل إن شاء الله المرة الجاية يوم الثورة".. أشاح بوجهه بعيدا.. لكنني أقسم أنني رأيت الخوف في عينيه! وأقسم أنه نفس الخوف الذي يستشعره الجلاد، عندما يحس بالنقص أمام أسيره، فيحاول ان يهرب من خوفه بإخافة الأعزل، ويخفي إحساسه بالهوان ونقص الكرامة، بمحاولة إهانة كرامة البطل الأسير.. وتصدق كلمات نجم: "كان مناه يلمح علامة خوف بسيطة.. طب حييجي الخوف منين ابن العبيطة؟ هو مين فينا الجبان..واللا مين فينا اللي خان؟".. هانت!