العراق:حول أوضاع المرأة في العراق: حوار مع ينار محمد
سنان أنطون: يكثر الحديث عن الحرب والاحتلال وتبعاتهما وآثارهما على أوضاع المرأة في العراق، دون الإلتفات، بما فيه الكفاية، إلى تأثير الحصار وسنوات العقوبات الاقتصادية بين ١٩٩٠ و٢٠٠٣. هل لك أن تحدّثينا عن عواقب الحصار على العراق بما يخص أوضاع المرأة في العراق اقتصادياً واجتماعياً؟
ينار محمد: إن الحرب والاحتلال لم يحلّا على مجتمع كان يعيش أوضاعه الطبيعية، بل على مجتمع كان يترنّح محاولاً الاستفاقة من ضربات طالته خلال عقد وأكثر من الحصار الاقتصادي، والتي تمت بموافقة مؤسسات المجتمع الدولي وعلى رأسها الأمم المتحدة عندما قررت أن تعاقب مجتمعاً بأكمله بسبب قرار اتّخذه دكتاتور كان يستبد بذلك المجتمع.
إن فترة الحصار الاقتصادي نقلت أكثرية الجماهير في العراق من أوضاع مجتمع مرفّه إقتصادياً إلى مصاف المجتمعات المعدمة التي منع عليها الطعام والشراب والدواء وبقرار سياسي دولي. ولم تكن أرقام الأطفال العراقيين الذين فقدوا حياتهم بسبب هذه الاجراءات –مايقارب النصف مليون- كافية لمراجعة المجتمع الدولي لقرار كان بمثابة مجزرة جماعية يومية لمئات من الأطفال الأبرياء. كان المجتمع العراقي آنذاك بمثابة الضحية التي ظلت تتلقى الضربات من مجتمع دولي عمل كأداةً طيعة للسياسات الإجرامية للماكنة البرجوازية الأمريكية التي لم يهمها آنذاك إحصاء عدد قتلى الحصار الإقتصادي، قدر ما كان يهمها أن توفر الأجواء المناسبة لشن حرب على العراق لكي تحصل على أكبر قاعدة عسكرية لها في قلب الشرق الاوسط، وتسيطر على واحدة من أهم منابع النفط في العالم.
وكانت لهذا الحصار نتائج مدمرة ومتنوعة يصعب حصرها في نقاط قليلة، بيد أن بعضها كان عزل العراق عن العالم الخارجي والتسبب بنشر الأمية والحرمان وبالنتيجة دفع المجتمع إلى مواقع متخلفة؛ وفي نفس الوقت إفقاره إلى مديات لم يعرفها في تاريخه الحديث، بحيث أصبحت اللقمة والغذاء الجيد حلماً لمعظم العوائل العراقية، والأمراض يصعب علاجها بسبب عدم توفر الأدوية التي منعها الحصار الإقتصادي من الإستيراد تحت مبرر أنه يمكن استعمالها في صناعة الأسلحة الجرثومية المبيدة. وبسبب الحصار الاقتصادي الذي منع تصدير النفط والمنتجات الأخرى، تدهور الإقتصاد العراقي إلى درجة غير مسبوقة في تاريخه، بحيث انخفضت قيمة الدينار العراقي إلى ٠،٠٠٣ بالمئة من قيمته قبل عقد وأكثر من الزمن. وبذلك تدهور مستوى معيشة العائلة العراقية بنفس القدر ولم يكن ممكناً لمائدة الأسرة العراقية أن تقدم ربع احتياجات أفرادها من الغذاء، ولذا تكاثرت بعض الامراض التي كانت منسية لما يقارب من النصف قرن من التاريخ الحديث.
وبالرغم من زيادة الرواتب التي كانت حكومة البعث تهبها بعملة مطبوعة من دون غطاء، أصبح معدل الراتب الشهري للأسرة العراقية لا يتجاوز الثلاثة دولارات، بينما كان يساوي ما يقارب الألف دولار في وسط الثمانينيات.
كان من الشائع منذ الثمانينيات أن المرأة العراقية تشكل ما يقارب من ٤٠ بالمئة من عاملي القطاع العام- أي من الوظائف الحكومية، إذ كان يتم توزيعنا أو بالأحرى تعييننا على الوزارات مباشرة مع تخرجنا من الجامعات. وكانت المرأة العراقية تتميز عن أقرانها من البلدان العربية في الشرق الأوسط بأنها الاكثر ثقافة وحصولاً على مستويات عالية من الدراسة. كما وكان معروفاً بأن في العراق النسبة الأعلى من النساء العاملات/ أي المستقلات اقتصادياً، مما جلب ومنذ الخمسينيات من القرن الماضي قوة واقتداراً للمرأة العراقية بما لم يكن له مثيل في جغرافيا وتاريخ المنطقة.
بيد أن قرار الحصار الإقتصادي الإجرامي، قد اقتص من معظم انجازات المرأة العراقية، وضرب استقلالها الاقتصادي عرض الحائط، بل وجعلها حائرة بكيفية إطعام اطفالها ومعالجتهم من أمراض أتى بها الحصار، وترك نصف مليون امرأة منهارة بسبب فقدانها لوليد أو طفل لم يستطع تجاوز مصاعب عدم وجود الغذاء والأدوية والتي منعها المجتمع الدولي عنهم. قد لا يستطيع البعض ممن لم يزامن تلك الفترة أن يصدق بأن الأمم المتحدة تمنع الحليب عن الأطفال، أو الأدوية التي تمنع أمراض الأطفال الرضع، بالإضافة إلى كثير من مقومات الحياة التي لا يفكر بها الإنسان الذي يعيش في المجتمعات العصرية الحالية، إلا أن جيلنا الذي عانى من الآثار المدمرة للحصار قد شهد هذه الجريمة وعانى أطفالنا منها.
ومن النتائج غير المباشرة للحصار كان فرض جدار من العزلة على العراق، وترك المجتمع ضحية للفقر والجوع واستبداد الدكتاتورية والمجتمع الدولي في آن واحد، مما ترك الجماهيرعرضة للاستسلام للغيبيات التي قد تسند الفرد معنوياً وتساعده في تجاوز صعوبات حياته اليومية والتي لم يكن لها أي حل أو جواب في العالم الواقعي. وكل ذلك ساهم على تفشي الاستسلام للدين وللحركات الدينية المعادية للنظام البعثي الحاكم، والتي بدأت تبث افكارها وسمومها من الجوامع والحسينيات على كل من يبحث عن بديل للتعذيب اليومي الذي يعيشه من جراء الجوع والفقر والحرمان ومراقبة العوائل تتمزق والأفراد يعانون. كما واستغل النظام البعثي هذا النزوح إلى الدين بمثابة جواب لصعوبات الحياة، مما وفر له الغطاء للاستمرار باحتكار الثروات المتاحة بينما ترك الجماهير عرضة لمعاناة اقتصادية غير مسبوقة مما جعلها فريسة ضعيفة أمام الاستسلام للغيبيات. وكلّف الدكتاتور آنذاك المؤسسة الدينية الداعمة له ببث دعاية معاداة الغرب، وتصوير النظام البعثي كضحية للامبريالية الغربية.
وبعد أن كانت فترة السبعينيات وبعض من الثمانينيات فترة توجُّه شباب الجامعات وشباب الطبقة العاملة إلى التنظيمات السرية الثورية والحياة العصرية التي تدعهم يتمتعون بانفتاح العلاقات الانسانية بشكل يواكب أكثر مدن العالم تطوراً؛ مروا وخلال العقد التالي من التسعيينات بكارثة من الجوع والحرمان الناتج من الحصار الاقتصادي، مما دفع نفس ذلك الجيل إلى الجوامع ليسمع ما بامكانه أن يخاطب الغضب الجماهيري تجاه الحصار وتجاه الاستبداد. وبعد أن قام جيل بمعظمه بنزع الثياب العصرية وارتداء الدشداشة للتوجه إلى الجوامع، بدأ يتضح تخلف المجتمع بخطوات سريعة جداً تجاه كونه مجتمعاً اسلامياً مستسلماًَ للغيبيات، مما سبب تغييراً مدمراً وغير مسبوق في التاريخ الحديث للمجتمع العراقي.
وتزامن هذا التخلف المفروض مع فقدان مكتسبات كانت المرأة العراقية قد حصلت عليها في العقود السابقة، سواء في مكانتها الاجتماعية وكذلك في التشريعات التي كانت تضمن لها حقوقها وعدم تبعيتها للرجل. وانتشر آنذاك الحجاب كالفايروس وخاصة في ١٩٩٤ عندما اشتدت ظروف الحصار وأصبحت أقرب إلى المجاعة والعوز مما ترك المرأة ممزقة بين اطفال جياع ومجتمع يحاول استغلالها لكي تحصل على ما تطعم أطفالها به، أو عوائل تضحي ببناتها في زيجات لكي تضمن معيشة باقي العائلة. ولم يكن انتشار الحجاب سوى القشرة المرئية للتعذيب والمعاناة اليومية لملايين من النساء لإطعام أطفالهن والبقاء على قيد الحياة، وبدأت تنتشر آنذاك حالات عشائرية من قتل النساء لأسباب تخص الشرف العشائري. وكانت المعاناة على أشدها في الأسر التي فقدت الأب أثناء الحربين المتتاليتين، وأصبحت المرأة الأم هي المعيل، إذ أن الحرب العراقية الإيرانية وبعدها عاصفة الصحراء - حرب أمريكا على العراق، قد تركت ما يزيد عن المليون من النساء الأرامل المسؤولات عن عدة أطفال. وكان النمط المعتاد لهذه الأسر أن تكون قد باعت معظم ممتلكات دارها خلال السنوات الأولى للحصار وأصبحت تعيش في بيوت تخلو من مصادر الراحة، وكأنها رجعت في مستوى تطورها المعيشي نصف قرن الى الوراء.
هذه الظروف بمجملها كانت ظروف المرأة العراقية أثناء بدء الحرب واحتلال العراق عام ٢٠٠٣. وبعد أن كان التصور السائد بأنه لا يمكن أن يحل بالمرأة العراقية أسوأ مما حل من مآسي الحروب السابقة والحصار وتسييس الدين وطرد المرأة تدريجياً من المنابر العامة وترك تلك المنابر للعسكر والعشائر ورجال الإسلام السياسي. ومع ذلك كله، أثبتت أيام الإحتلال وسنوات الحرب الطائفية التي نتجت من الاحتلال، أن مصيراً أكثر سواداً كان ينتظر المجتمع ويعرض المرأة لأنواع جديدة من مظالم التي لم ترَها في تاريخها السابق.
س. أ: التعبئة الدعائية للحروب التي تشنها أمريكا استخدمت موضوع حقوق المرأة واستغلت معاناتها لتسويق فكرة الحرب وتصوير أهدافها على أنها نبيلة تهدف إلى تحرير المرأة “الأخرى” في مجتمعات أبوية محافظة. حدث هذا في أفغانستان وبعدها في العراق. لو أردنا رسم صورة عامة بخطوط عريضة، فما هي تبعات الحرب والاحتلال وكيف أثرا على أوضاع النساء في العراق بعد مرور عقد؟
ي. م: إن استغلال موضوع المرأة للتعبئة تجاه إطلاق الحرب الامريكية بالضد من العراق كان للاستهلاك الدعائي العام فقط؛ بينما كانت الـ"خبيرات الجندرية" العائدات للسفارات الامريكية والبريطانية يدعون النساء العراقيات للتعامل والتعاون مع رجال الإسلام السياسي الجدد وكذلك مع شيوخ العشائر بما يتناسب مع تقاليدهن. أي أن دعايتهم لتحرير المرأة العراقية لم تستمر بعد أن استقروا لاحقاً في المنطقة الخضراء؛ بل لقد تخلصوا من هذا الخطاب ليستبدلوه بعلاجات سطحية الطابع لا تمس الوضع الاجتماعي للمرأة العراقية، بل اكتفوا بمنجز الكوتا (٢٥ بالمئة من مقاعد البرلمان للنساء) والذي أتى بنساء اسلاميات معاديات للمرأة إلى الحكم. وكلما اعترضنا كان جوابهم بأن الأكثرية هي التي انتخبت الاسلاميين، اذن هم اختيار الجماهير وليس من يطلب مساواة المرأة؛ مما دل على أن إجراءً مجتزءاً كهذا لم يكن سوى غطاء لتنصيب واحدة من أكثر حكومات العراق كراهية للمرأة خلال تاريخنا الحديث. وكان الاحتلال بذلك حريصاً على تطبيق قانون الغاب، أو بالأحرى أن يروا من هو الأقوى والأكثر بطشاً في المجتمع (من أصحاب الميليشيات) ليقفوا بجانبه ضد الضعيف أو الذي يساعدون على إضعافه، من فئات النساء والتحرريين الذين رفضوا رفع السلاح خلال سنوات فوضى إرهاب المجتمع من كل حدب وصوب.
وتحققت أمنيات إدارة البيت الابيض خلال السنوات الأولى من الإحتلال، إذ كانت الغلبة في كتابة الدستور وفي إدارة المنابر العامة والإعلام كلها لصالح رؤوس الإسلام السياسي والذكوريين الذين يمجدون قيم العشائر. وأصبح تعامل الدستور مع المرأة عبارة عن محاولة شرسة لتكريس عبوديتها وتبعيتها للرجل بأشكال متعددة وحسب الديانة التي تتبع لها المواطنة. فإن كانت مسجلة مسلمة على الهوية، تسمح الدولة لزوجها أن يجمع معها ثلاث نساء أخريات في الزواج، وأن تكون ألعوبة بيد الرجل يطلقها متى ما شاء حتى ولو بتلاوة كلمات في الهواء. وإذا كانت مسيحية، فعندها تحرمها الدولة من حق الانفصال، وإذا كانت يزيدية، تتركها الدولة ملكية بيد أسرة زوجها يسجنونها كما يشاؤون خاصة لو ترملت، إذ أنها تعتبر ملكاً صرفاً لأسرة الزوج. وطالما راسلت منظمتنا نساء يزيديات مثقفات يصعب عليهن الوصول لباب الدار بسبب سيطرة أسرة زوجها المتوفي على مصيرها بالكامل. أما الجزء العربي من العراق، أي الوسط والجنوب والغرب فقد تدهورت أحوال المرأة فيه بشكل لم تشهده أية حقبة أخرى وظهرت ظاهرة الزوجة المهجورة (٢٠ بالمئة من نساء حوض الفرات الأوسط) والتي عادةً ما تكون الزوجة الأولى أو الثانية أو الثالثة أو زوجة المتعة في مدن ما يشبه الفاتيكان الشيعي، حيث انتشرت تقاليد أشبه بتقاليد القرون المظلمة في أوروبا عندما كانت الكنيسة تحكم بالحديد والنار.
وهكذا وبعد حرب الاحتلال والتي سموها حرب التحرير للرجال والنساء، فقدت المرأة العراقية وبحكم الدستور الجديد أية استقلالية كأنسانة يدافع المجتمع عن كرامتها وحريتها بل وحتى سلامتها الجسدية. إذ تشجع المؤسسات الدينية الرجال من على منابرها بأن يتحكموا بنسائهم بالنهر والزجر والضرب والهجر وكأن النساء مصدر مستمر للرذيلة يجب حفظة داخل أحجبة وسجون منزلية تمنع شرورهم عن المجتمع. وتظافرت المؤسسة القضائية بتشريع كل ما بإمكانه إضعاف المرأة اقتصادياً واجتماعياً وإدارياً. إذ كانت هنالك بعض المسَلمات في العهود السابقة من مثيل تحكم المرأة بهويتها أو سفرها أو أملاكها كما تشاء، بينما تتدخل الآن مؤسسات الدولة لكي تطلب مستمسكات أو موافقة الزوج أو الأب أو حضورهما في معظم معاملات الهوية أو السفر أو نقل الملكية. كما ويتحفنا الإعلام الرسمي – فضائية العراقية - بخطب لمعممين يشرحون سبب زواج القاصر لكون مواصفاتها الجسدية مكتملة النمو، أو السخرية من"مضايقة" الزوجة الأولى في حال تزوج زوجها من الثانية، مما يوضح أن نظرتهم للمرأة أصبحت كمخلوق تابع للمجتمع الذكوري وقائمة على تلبية الحاجات الجنسية والخدمة وتربية الأطفال وفقط ولا غير. ولا ترقى المؤسسات الإعلامية النصف علمانية إلى مستوى أرقى بكثير؛ إذ أصبح مشهد الضرب العنيف للمرأة بضاعةً لترويج المسلسلات في رمضان وغير رمضان. والكل يعلم أن الدولة بامكانها منع هذه المسألة أو تحديدها إن أرادت.
كانت الايام المعدودة التي شعرنا بها بقيمتنا كنساء أثناء تظاهرنا في ساحة التحرير في بغداد خلال شباط وآذار ٢٠١١. وبالذات عندما أصبحت النساء هن اللواتي يمثلن الكتل الموجودة في الساحة وتؤخذ تصريحاتهن بجدية وتعرض على شاشات الفضائيات. ولم ينس الأمريكان ومؤسساتهم الإعلامية الموجودة في العراق أن يقوموا بالتعمية على السنة الكاملة من التظاهرات من قبيل اليوم المجيد ٢٥ شباط وبعده لأشهر عديدة- إذ تجمع خلال ذلك اليوم مئة ألف متظاهر بالرغم من كل تحذيرات الطبقة الحاكمة وكذلك فتاوى من يسمون أنفسهم بالمرجعيات. كما وأن الإعلام الغربي من قبيل السي إن إن لم يكترث بأن يغطي هذا الخبر إذ فكر الامريكان بأن صور هذه التظاهرات لن تخدمهم أمام المجتمع الدولي والذين يدعون أمامه بأن العراق تحرر وحلت فيه ديمقراطية تجري من تحتها الانهار.
س. أ: خلقت الحروب المتتالية والاحتلال والحرب الأهلية مجتمعاً يترسخ العنف في لاوعيه الجماعي وفي ممارساته وخطابه السائد؟ ما هي أهم تمظهرات هذا المناخ التي خبرتها من خلال عملك ومعايشتك؟
ي. م: إن تواجد مجاميع الرجال المدججين بالسلاح في الشارع وفي نقاط التفتيش الكثيرة، وتعاملهم الفظ مع المواطن أصبح أمراً معتاداً عليه؛ بل وينقل ثقافة كون الحكام يحكمون بالعنف إلى الاجيال الجديدة، التي ترى السبيل الوحيد لاقتدارها بأن تكون جزءاً من الجهاز الاستبدادي عوضاً عن الجهة المستلمة له. ولقد بدأ هذا الأمر منذ أيام الدكتاتور صدام حسين وجهاز البعث الاستبدادي، واستمر أيام الاحتلال الامريكي وعلى صعيد أوسع، إذ أن الدبابة الامريكية في شوارع بغداد كان يجلس عليها جندي اعتاد أن يهين المارة برمي قناني الماء عليهم. ولم يكن مسؤولاً فيما لو صدمت الدبابة المارة أو السيارات المدنية، بل وكانوا يضعون لافتة التحذير من عدم الاقتراب لخمسين متر منهم وإلا فهم يرمونا بالرصاص حتى لو كنا أمام بيوتنا، بينما كانوا يتجولون نهاراً وليلاً في شوارعنا على دبابات مهمتها قتلنا وفرض أنفسهم بالعنف علينا. ويبدو أن تكرار المشهد لسنوات تسع متتالية عزز مفاهيم ومظاهر فرض العنف والسيطرة، بما فيه الملبس العسكري وقصات الشعر المسماة بالمارينز والتي اصبحت متبعة من خلال الشباب لفترة ما.
ولعل أقسى إرهاب شهده المجتمع خلال فترة الاحتلال كان هجوم الميليشيات الشيعية الحاكمة ولفترة تجاوزت السنتين على المناطق المعروفة بكونها سنية الطائفة، واعتقالها للشباب وقتلهم بعد ترك آثار الحفر بالدريل الكهربائي عليهم. وفي كثير من المناطق كانت تتبع حملات كهذه اعتداءات جنسية ضد النساء اللواتي بقين وحيدات في المنطقة بسبب اعتقال أو قتل الأب أو الأخ. وهذه بحد ذاتها كانت سابقة قي المجتمع العراقي لم تعرفها الذكرة الحية أو تذكر كتب التاريخ أي مثيل لها منذ بدء الكتابة. وظلت مئات الآلاف من حالات التعدي الحاصلة تحت عيون جيش الاحتلال وبتشجيع منه في طي الكتمان، ولم تسمح هذه السنوات بالكشف عنها بسبب كون الدماء الجارية لا زالت حارة، وبسبب احتمال تكرار نشوب الحرب الطائفية احتمال قائم.
وبعد أن قامت العملية السياسية بمكافأة قادة الميليشيات من الصوبين الشيعي والسني والتجمعات القومية والإثنية والدينية الأخرى، انتقل الصراع إلى داخل البرلمان ولكن ليس لفترة طويلة. إذ أن هذه الميليشيات أدركت بأن ثقلها السياسي الوحيد ناتج من قدرتها على البطش والإرهاب. واستمرت التفجيرات في كل مفصل سياسي تختلف فيه كتلة مع أخرى، مما أنتج لنا الاربعاء الدامية في البداية، ولكن لم يقتصر الموضوع على يوم الأربعاء فقط بل امتد ليشمل كل أيام الأسبوع التي شهرت حوادث دامية وبشكل مريع. ويستمر مسلسل العنف إلى هذه الاشهر دون توقف، حيث قتل أكثر من مئة مواطن عراقي في التفجيرات خلال يوم واحد، ولم يعتبر اكثر من خبر عادي تبثه أجهزة الإعلام.
وبنفس المنوال انتشر العنف الحكومي والميليشياتي ليصبح أيضاً جزءاً من المشهد المجتمعي بل وحتى المنزلي، حيث أصبح ضرب النساء داخل البيوت ممارسة معتادة تشجعها عقلية الطبقة السائدة سواء من خلال المنابر الدينية أو الأجهزة الإعلامية المغرقة في الذكورية. ونواجه في منظمة حرية المرأة نداءات استغاثة من مئات النساء سنوياً ممن يعانين من عنف مفرط تصعب معه حياتهن. تتصل بعضهن عبر الإنترنت، ولا يقتصر ذلك على شريحة معينة، ولكن يزيد في العوائل التي لديها أبناء تحولوا إلى مسؤولين وبعد أن كانوا في تنظيمات الميليشيات.
وليس من قبيل المفاجأة أن تتصل بنا أستاذة جامعية لا سبيل أمامها لضمان سلامتها البدنية وتطلب منا الإيواءـ علماً منها بأن مؤسسات الدولة من قبيل الشرطة (لدى الدولة ما يزيد عن خمس عشرة مؤسسة أمنية) أو غيرها لن تقدم لها أية حماية، ولكن سوف تعيدها إلى الدار التي حياتها مهددة بداخلها دون أية محاسبة للرجال الذين تراهم الدولة "قوامين" على النساء.
وصادفتنا حالة إسراء فتاة بعمر أربعة عشر عاماً التي أخفقت في أن تكون خادمة مثالية لزوجها وأهله، ولذا فقام الزوج الذي يكبرها سناً بعشرين عاماً بربطها على الكتائب المعدنية لشباك ولم يتردد بتعذيبها بضربها بقابلات، أسلاك معدنية على كل جسدها، ومن ثم حرق أطرافها بسجائر مشتعلة. ولم يرَ الزوج أو أهله أو أي من الجيران الذين سمعوا صراخها باستمرار أي تجاوز من الرجل الذي من "حقه" تأديب الزوجة. وحتى ولو كان أحدهم قد اتصل بالشرطة فان إجابة الضباط كانت ستكون بانه شأن عائلي لن يتدخلوا به. ومن الجدير بالذكر أن قانون العقوبات العراقي وعوضاً من أن يدافع عن الزوجة، يدافع عن حق الزوج بتأديب زوجته وذلك بالفقرة ٣٩ والتي لا تزال سارية المفعول الآن.
تحصل هذه الاعتداءات يومياً دون أن يخاطبها القضاء أو مؤسسات الأمن والشرطة أو المؤسسة التشريعية. بل أن مؤسسة الشرطة المجتمعية التي أسسوها لهذا الغرض كانت منشغلة بأخذ صور للمتظاهرات في ساحة التحرير لغرض إيصالها الى الاستخبارات التي تخطف المتظاهرات وتعذبهن، كما حصل لناشطة منظمتنا آية اللامي في أيلول الماضي. كما أن كافة مقرات الشرطة في بغداد وصلتها صورنا وكانت جاهزة في انتظارنا أثناء مراجعتنا لقضايا عنف تخص النساء في الأشهر اللاحقة.
س. أ: أحد أهم المشاكل التي انتشرت في السنين الأخيرة هي وجود شبكات للاتجار بالنساء والفتيات في العراق تعمل داخل العراق وفي المنطقة. هل لك أن تحدّثينا عن الظروف التي ساعدت على ظهورها وديمومتها والجهود التي تقوم بها بعض المنظمات لمحاربتها؟
ي. م: سببت أوضاع الاحتلال الأمريكي الشلل في الاقتصاد العراقي وفي معيشة أفراد المجتمع بسبب تجميد كل مرافق الدولة والوزارات والمنشآت حيث كانت الملايين من النساء موظفات ويعلن أسرهن من هذا العمل. وسببت أوضاع تجميد الاقتصاد العراقي ترك الملايين من الجماهير دون مورد للسنوات العديدة الأولى من الاحتلال، مما أدخل المجتمع بحلقة مروعة من فقر مدقع غير مسبوق، وبطالة مفروضة على الجميع.
في بلد زاد فيه عدد الأرامل عن المليوني أرملة ويقابله أيضاً ما يزيد عن المليوني يتيمة حرب، وجدت هذه الملايين من الأناث نفسها تتحول إلى بضاعة يتم المتاجرة بها لإمتاع طبقة مستغلة جديدة نشأت مع الحرب من رؤوس وأفراد الميليشيات، وتجار المشهد الديمقراطي الأمريكي الجديد.
كما وأن مساعي أسلمة المجتمع بدأت تشجع ظاهرة الزوجة الثانية والثالثة والرابعة وكذلك زواجات المتعة اللامحدودة للذكور والتي حولت شريحة كبيرة من يتيمات وأرامل العراق إلى محظيات لأبطال السلب والنهب ومجازر الحرب الطائفية. كما وظهرت ظاهرة جديدة لم تكن مألوفة في العقود الاخيرة؛ ألا وهي تزويج الأحداث بل والأطفال الإناث دون الاهتمام بقانون الحد الأدنى لزواج الانثى دون موافقة ولي أمرها، والذي كان عمر الثامنة عشرة للأنثى. ولعل ذلك انتشر أكثر بعد تاسيس المحاكم الشرعية الإسلامية في مدينة الصدر والمدن الجنوبية، حيث حلت هذه المحاكم محل محاكم الدولة وحلت الشريعة محل قانون الأحوال الشخصية لعام ١٩٥٩. وزاد الطين بلة كون الدستور الجديد الذي تم فرضه على المجتمع عام ٢٠٠٥ فسح المجال لمحاكم الشريعة بأن تضطهد النساء كيفما تشاء، تحت فقرة ٤١ التي نصت على أن "العراقيون أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية، حسب ديانتهم أو مذاهبهم أو معتقداتهم أو اختياراتهم ..." وكأن بنت عمرها ١٢ سنة تستطيع أن تختار قانوناً يصون ويحمي طفولتها بالضد من ذكور العائلة الذين قرروا تزويجها سواء الأب أو الأخ أو العم.
تسببت أوضاع الفوضى والعنف الميليشياتي والأسلمة المفروضة وتعملق المؤسسات الاسلامية وأحزابها وجيوشها غير النظامية باستحداث مجتمع أشبه بالقرون المظلمة التي حلت في اوروبا حيث كانت الكنيسة تحكم بكل ظلم، وحيث لم تكن لحياة الانسان وحقوقه أية أهمية أمام هيمنة الكنيسة ومحاكم التفتيش. وفرضت استقطاباً طائفياً كذلك على مجتمع لم يكن يعترف بهذه المسألة كتفرقة بين البشر. وبنفس طريقة محاكم التفتيش العائدة للقرون المظلمة، بدأ التابعون لطوائف أخرى يتم قتلهم بطرق بشعة وظهرت جيوش دينية من قبيل جيش المهدي وعصائب الحق وغيرها من الذين أصبح الدريل الكهربائي والبلوك الكونكريتي إحدى وسائلهم المفضلة في القتل.
وكما كانت المرأة في القرون المظلمة واحدة من إثنتين: إما وسيلة للإنجاب مما يجعلها سجينة الدار وخدمة الرجل وملكيته ومنجبة لأولاد يساعدونه في عمله، أو أن تكون وسيلة لمتعة الرجل وتصبح بذلك بغية يستعملها الرجال كما يشاؤون ويمتلكونها وقتياً بمبلغ من المال ويتصرفون بها كما يشاؤون إذ لن يطالب بها وبسلامتها أي أحد. وفي الحالتين، فان المرأة كانت تعتبر مجرد وسيلة للحصول على الأطفال والخدمة او المتعة، ويمكن تغييرها أو استبدالها أو حتى التخلص منها في حال عدم أدائها الغرض المطلوب منها. وبنفس المنوال أصبحت المرأة العراقية في ظل المؤسسة الاسلامية والديمقراطية الامريكية الموهومة، إما واحدة من الزوجات الأربع للرجل، أو بغية يتم استغلالها لمتعة البرجوازية دون أن يكون لها أية حقوق حتى بضمان حياتها. وظلت شريحة كبيرة من الأرامل وغير المتزوجات يعانين من فقر مدقع لقلة توفر فرص العمل، أو لمصدر العيش، وذلك في واحدة من أغنى الدول ذات أعلى احتياطي نفطي في العالم. إن إبقاء الاكثرية مستضعفة ومحرومة اقتصادياً لم يكن سهلاً لولا إطلاق يد المستغلين والمحتكرين لتغيير السياسات الاقتصادية للعراق لتكريس رأسمالية تقوم على أساس اللامساواة والحرمان الاقتصادي للاأكثرية السائدة. وبالرغم من أن ذلك يشمل المجتمع برجاله ونسائه، بيد أن معاناة النساء مضاعفة عن الرجال بسبب تكريس قوانين المؤسسات الدينية التي تشجع على استعباد النساء والتحديد من استقلالهن الاقتصادي، وتجعلهن كذلك محل شك من ناحية سلوكهن ومظهرهن الاجتماعي. إذ كلفت حكومة المالكي وزيرة المرأة بأن تسن قرارات تمنع الملبس العصري للمرأة وتفرض الخرق البالية والتاريخية عليها. بل وحتى تدخلت بنوع الحذاء الذي يجب على النساء ارتداؤه. كما يتدخلون في هذه الايام بفرض طقوس الصيام والسير للمراقد في كل شهر وصرف الملايين من الدولارات من ميزانية الدولة على إطعام السائرين ودون أن يأخذوا رأي الجماهير بذلك.
أما عن موضوع الاتّجار بالنساء فلقد كانت منظمة حرية المرأة سباقة في اثارة هذا الموضوع ولوضع البرامج لتوفير الفرصة لبعض الفتيات اللواتي يردن بناء حياتهن من جديد بعيداً عن البغاء. وأبلغنا المجتمع بواجبه للتصدي لهذا الوباء الذي يجب أن لا يحل في دولة غنية كالعراق. وكانت النتيجة أن الدولة شنت حملة بالضد من منظمتنا على شاشات الإعلام الرسمي، فضائية العراقية، واسمتنا بـ "... اولئك الذي يحقّرون المرأة العراقية". إذ شعر قادة العهد البرجوازي الإسلامي الأمريكي في العراق بأن حملتنا لمحاربة البغاء والاتجار بالمرأة كونها تهز ركناً من أركان عروشهم التي تقوم على أساس المتعة واستغلال النساء كمحظيات يستبدلونهن في كل ليلة بينما يحتفظون في بيوتهم بالزوجة الأولى والثانية أو أكثر.
لم تجرؤ باقي المنظمات النسوية علي الانضمام إلى حملتنا في البداية وخاصة بعد أن شهدوا عدوانية الدولة معنا، إذ عرضوا وجه ناشطتنا النسوية دلال الربيعي محاطة بدائرة سوداء وكأنهم يعرضون وجه إرهابي. ولكن غيرت المنظمات النسوية سياستها لاحقاً وبدأت تتجه بنظرها الى هذه المعضلة وتعترف بها يوماً بعد يوم. ولقد شهدنا في تلك الأيام العصيبة والتي حاربتنا الدولة فيها بأن الناشطات النسوية نوعان: أما ناشطة مناضلة تضع نصاب عينيها أنها ستواجه الدولة بمؤسساتها من أجل إنقاذ المرأة، أو ناشطة حكومية تفضل أن تدافع عن حق الدولة بالاحترام حتى ولو كان ذلك على حساب حياة وكرامة المرأة، وبالنتيجة تقوم هذه الناشطة بممارسة العنف ضد المرأة ومنظمات المرأة عندما تتهمنا بالكذب والمبالغة وكافة الاتهامات الاخرى. وحدث ذلك من قبل برلمانيات وكذلك نساء موظفات في المكاتب المحلية لمؤسسات الامم المتحدة.
بعد نضال سنوات عديدة في موضوعة الدفاع عن المرأة المتاجر بها، اضطرت الدولة أن تلتفت إلى هذا الموضوع وأن تقوم بالتوقيع على قانون (مكافحة الاتجار بالبشر) رقم ٢٨ لسنة ٢٠١٢، الذي جرم بموجبه – لأول مرة في العراق – فعل الاتجار بالبشر ، فكان خطوة هامة في طريق المساهمة في الجهود الدولية للوقوف بوجه هذه الظاهرة الخطيرة، بالرغم من وجود بعض النقوصات في هذا القانون من قبيل إيقاع العقوبات بمجرمي الاتجار.
وتظل مسألة وجود شريحة واسعة من الإناث في العراق ممن أصبحن شريدات وضعا شاذاً اجتماعياً، ولا تعترف الدولة بمسؤوليتها عنهن بأي شكل من الأشكال، بل وحتى لا تكترث بتزويدهن بهويات ومستمسكات رسمية. وتتعامل منظمة حرية المرأة مع هذه الضحايا بشكل يومي، وتخطط الآن لحملة جديدة للنهوض بواقعهن وفرض قضية اعتراف الدولة بهن من قبيل تزويدهن بأوراقهن الرسمية.
س. أ: ماهي أهم الإشكاليات والعوائق القانونية والدستورية التي تنتهك حقوق المرأة في العراق وتحرمها من حقوقها المشروعة؟ كيف يتعامل النظام القائم مع هذا الموضوع؟
ي. م: الدستور برمته إشكالية أمام الحقوق الاجتماعية للمرأة اذ يسعى لجعل المرأة شخصاً تابعاً للرجل في كل جوانب الحياة. وعلى العموم يقوم بذلك من خلال تسليط الشرائع الدينية بالضد من القوانين المدنية المعمول بها سابقاً في العراق من قبيل قانون الاحوال الشخصية. وتمت كتابة الفقرة ٤١ في الدستورلتكريس تبعية المرأة للرجل حسبما قررته الاديان. وقد كتبت هذه الفقرة بعبارات منمقة يحاولون بها إظهار حرية المواطنات باختيار مراجعهم في الأحوال الشخصية، إلا أن هذه الفقرة في حقيقتها أضفت الشرعية الكاملة على محاكم الشريعة الإسلامية التي بدأت ومنذ ذلك اليوم تتحكم بحياة الملايين في وسط وجنوب العراق وبشكل يتعامل مع المرأة بنفس مفاهيم القرون المظلمة التي تتعامل مع النساء كمجرد أوعية مملوكة لإنتاج الاطفال، أو أدوات لضمان متعة الرجال شرعياً مع الزوجة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، وزوجات وقتية إضافية في بعض الطوائف. بحيث كلما كبرت المرأة قليلاً بالعمر يتم استبدالها بأخرى أصغر منها، وكأنها بضاعة مستهلكة. وذلك يعكس نظرتهم للمرأة بمثابة مادة أو شيء يتم اقتناؤه واستعماله مثل أية بضاعة استهلاكية أو أثاث منزلي.
ولقد حرصت دولة ما بعد الاحتلال أن تقتص حتى من المنجزات الضئيلة للمرأة العراقية في تاريخها الحديث. إن فرض محاكم الشريعة الاسلامية وكذلك الأعراف العشائرية المعادية للمرأة هي الاخرى مثال صارخ لذلك ولكن ليس الوحيد. إذ أن حق المرأة بالسفر أيضاً تم تحديده بابتداع قوانين جديدة، كان أولها سفرها مع محرم، وعندما ثارت نساء العراق على هذا القانون، تم تثبيت إجراءات للحد من حرية المرأة بالتحرك بحيث لا يتم استخراج جوازات السفر دون موافقة الأب او الزوج، حتى لو كانت المرأة طبيبة او وزيرة او قائدة مجتمع. كما وبدأ الزحف والاقتصاص من حق المرأة بالملكية وتم تثبيت حقها بالميراث بنصف ما هو للذكر، بل وحتى لا يمكن للمرأة أن يكون لديها بطاقة تموينية (إحدى بقايا إجراءات فترة الحصار الاقتصادي) إلا اعتماداً على بطاقة أخيها أو أبيها. وبذلك قاموا بالحد من أي حرية تصرف للمرأة دون علم وموافقة ذكور عائلتها.
ومختصر تعامل الدولة العراقية الحالية مع المرأة هو تشريع قوانين تبعية المرأة للرجل ومنع حقوق المواطنة الكاملة منها، بينما تطلب منها كل الواجبات التي تطلبها من الرجال. وأصبح التمييز ضد المرأة او بالاحرى تحقيرها سمة لديمقراطية ما بعد الاحتلال. وبما أن حرية المرأة هي مقياس لتحرر المجتمعات، فإن عبودية المرأة في الحقبة السياسية الحالية إن هي إلا رمز لعبودية مجتمع يرزح تحت قيود اجتماعية واقتصادية مهولة فرضها النظام السياسي خليقة الاحتلال الامريكي.
وتظل قوانين التغطية على القتل غسلاً للعار، تأديب الزوجة، زواج المغتصب من المرأة التي يغتصبها قوانين نافذة وتحرص الدولة العراقية على المحافظة عليها لغرض إبقاء نصف الجماهير في حالة شلل اجتماعي وتهميش وضمان تقوية نصف المواطنين بالضد من النصف الآخر تحت سياسة فرق تسد.
أما مؤسسات الشرطة والنظام القضائي والسجون فتحتاج إلى إصلاح شامل، لا يمكن أن يحصل أثناء حكم أحزاب الميليشيات الإسلامية والقومية العربية والكردية في العراق؛ إذ تمت تقوية كل يمين المجتمع بأكثر أجزائه المعادية للحريات وللانسان، بينما حرص الاحتلال على تهميش قوى اليسار والتجمعات التحررية للمرأة والشباب والعمال.
س. أ: ماهي خارطة العمل النسوي في العراق؟ ما هي أهم وأبرز المنظمات التي تأخذ علي عاتقها الدفاع عن حقوق المرأة؟
ي. م: مثل كل الحركات النسوية في العالم، الخارطة العراقية متنوعة الأجزاء بدءاً من أقصى اليسار التحرري فيها والمتمثل بتجمعات منظمة حرية المرأة في العراق، إلى تجمع اليسار التقليدي من قبيل جمعية أمل وجمع المنظمات المحيطة بها، إلى جمع من المنظمات الليبرالية والتحررية والعلمانية من أمثال جمعية نساء بغداد وتمكين المرأة وغيرها وينتشر التوجه القومي العلماني كخلفية سياسية للبعض منهم، وانتهاءً بجمع من المنظمات اليمينية الإسلامية والتي يتم دعمها بشكل مباشر أو غير مباشر من الجمهورية الاسلامية في إيران من امثال منظمة بنت الرافدين. والتي تسعى الى أسلمة المجتمع من خلال برامجها وعملها.
ومثل كل الحركات النسوية في العالم اجمع، تمر بعض الفترات التي يستحيل فيها التوحد على أهداف واحدة وذلك بسبب الاستقطاب السياسي العالي في المجتمع؛ بينما نمر الآن بفترة مراجعة للسنوات السابقة وبروز رغبة في توحيد العمل النسوي وعدم السماح بالعناصر التي شتتت التوحيد هذا في السنوات السابقة. وغالباً ما كانت هذه العناصر السلبية تعمل يداً بيد مع المؤسسات البرجوازية المحلية والعالمية لغرض منع التضامن النسوي من أجل القضايا الموحدة.
تعمل منظمتنا الى جانب ثمان منظمات أخرى حالياً وبدعم من مبادرات نسوية مستقلة اوروبية لوضع خطة شاملة لكتابة مقترح لغرض تغيير سياسات الدولة تجاه المرأة، مما يسمى بـ"مبادرة ١٣٢٥ لخطة التفعيل الوطنية" وذلك لغرض مخاطبة الحكومة بناء على بعض مقررات الامم المتحدة لإشراك المرأة أو الدفاع عنها في مناطق النزاعات المسلحة -القرار١٣٢٥. إن التفاتة من هذا النوع جديدة وأولى لمنظمة حرية المرأة والتي اعتادت أسلوب التحدي والتظاهر والضغط تجاه فرض الاصلاح على القوانين والممارسات الحكومية. وبالرغم من كوننا منظمة ثورية، إلا أننا نؤمن أن العمل تجاه إصلاح أوضاع النساء من شأنه أن يقوي هذه الشريحة لكي تصبح أكثر قدرة على العمل الثوري. وقد سعينا بالدفع تجاه تقوية الظروف الثورية إلى الامام خلال أشهر تظاهرات ساحة التحرير العراقية، الا أنه بعد قمع الحكومة لها، رجعنا إلى مواقعنا مجبرين وإلى العمل الروتيني الذي يحافظ على مواقعنا داخل الساحة النسوية وبامكانه أن يجلب بعض التطوير لأوضاع المرأة في العراق.
وعدا عن ذلك، تنهمك منظمتنا بالسعي لإنقاذ المرأة من المهالك التي تسمح بها الدولة أو تقوم بتنفيذها أحياناً دون اكتراث، إذ أننا انشأنا عدة دور إيواء للمرأة من العنف المنزلي والمجتمعي ومن القتل غسلاً للعار، كما أننا نسعى لمخاطبة النساء من ضحايا الاتجار بالبشر ونعرض عليهن سكناً آمناً بعيداً عن عصابات البغاء. وتتميز منظمة حرية المرأة عن منظمات اليسار التقليدي أو المنظمات الأخرى بأنها تتعامل مع النساء اللواتي لفظهن المجتمع على أنهن "زانيات"- ولا توجد هذه الكلمة في أدبياتنا، بل إننا نحرص على التعامل بأعلى احترام معهن كضحايا عنف مجتمعي وأيديولجي منظّم من قبل عصابات الاتجار بالنساء من جهة، وكذلك من قبل المؤسسة الدينية والسلطوية الحاكمة من جهة أخرى؛ سواء النساء الهاربات من بيوت البغاء أو من العنف العشائري الذكوري ، وكذلك فئات المثليين والمثليات الذين تعرضوا لحملة إبادة وقتل في السنوات الأخيرة. ولدينا قناعة راسخة برفض أي تجريم للانسان تبعاً لظروفه الاجتماعية التي تدفعه لبيع الجسد أو ظروفه العضوية التي تقرر توجهه الجنسي، أو الفخ الذي تقع فيه الفتيات اللواتي يتركن عوائلهن بحثاً عن الحب، لتتلاقفهن عصابات البغاء.
وبالرغم من محاربة الدولة لنا بكافة الطرق من قبيل عدم الموافقة على فتحنا لبيوت الإيواء وكذلك عدم الموافقة على منحنا الإجازة للعمل ولغاية اللحظات التي نكتب فيها هذه الأسطر، إلا أن إصرارنا على العمل النسوي النضالي أثبت كونه أقوى من كل القمع الذي يعرضونا له. وبالرغم من تغير الحكومات الواحدة عقب الاخرى، نستمر نحن في عملنا النضالي ونخلق النموذج المشرق لمجتمع يحترم المرأة ويمسك بيدها لتتطور خلال معارك نضالية وسياسية تجاه مجتمع المساواة. وتشهد بيوتنا في بغداد وسامراء على تحول عشرات من النساء تحولاً ثوريا بعد أن يشعرن بالطمأنينة والسلامة، ويصبحن هن بدورهن المدرّبات الثوريات لصف جديد من الفتيات اللواتي يرغبن في التطور ليصبحن قائدات مجتمع.
س. أ: غالباً ما يتم تصوير الوضع في كردستان العراق بإيجابية مبالغة في الصحافة الغربية فيما يتعلق بالازدهار الاقتصادي وما يتعلق به؟ هل يمكن أن تحدثينا عن التحديات والمشاكل التي تواجه النساء الكرديات؟
ي. م: ما يصفونه بالإزدهار في إقليم كردستان العراق هو مجرد ثراء فاحش لطبقة حاكمة تتشكل من حزبين قوميين كرديين وشق ثالث جديد لا يختلف أيديولوجيا عنهما، بينما تعيش الجماهير حالة من انعدام الأفق والصعوبات الاقتصادية وانعدام فرص العمل؛ مما فرز المجتمع إلى طبقة مستغلّة تعيش في قصور على تلال مدنهم الرئيسية، وإلى أكثرية ساحقة ترسل أولادها الى خارج العراق وبالذات إلى اوروبا لكي يعملوا ويرسلوا مواردهم المحدودة إلى أهاليهم. لقد تكرست طبقة رأسمالية حاكمة في كردستان العراق تتحكم بكل الثروات وتبنى القصور، فإن كان التفاوت الطبقي والهوة الطبقية المخيفة لا تهم الإعلام الغربي الذي يركز على ثروات الحكام في القصور وانعكاسات رساميلهم في الشوارع التجارية، فذلك يتضمن ازدواجية في المعايير. إذ كانت الطبقة البرجوازية الحاكمة في العراق أيام البعث العربي وعلى رأسها صدام حسين تتمتع بنفس هذه الثروات وكانت الأوضاع هي نفسها. وقد تكون الأوضاع الاجتماعية مختلفة بعض الشيء في محافظة السليمانية من ناحية الحريات المحدودة والمكتسبة عن طريق نضالات الجماهير، ولكن في اربيل- عاصمة الاقليم- لا تختلف ممارسات عشيرة البرزاني عن عشيرة صدام التكريتي خلال العقود السابقة. وأصبح من المعتاد سماع أخبار اغتيال مخابرات البرزاني لمن يتحدى سطوته وسلطته، ومن أهم الامثلة لذلك اغتيال الشاب الكاتب سرشت عثمان قبل عامين لمجرد كتابته بسخرية حول أسرة البرزاني.
النساء في كردستان يعشن أوضاعاً صعبة للغاية. وبالرغم من تمتع نخبة قليلة في داخل المدن بوظائف إدارية مجزية في حكومة الأقليم، إلا أنه تظل أكثرية النساء الكردستانيات في أوضاع فقر وتخلف وحرمان من التعليم، في ظل عشائر تتمسك بعادات معادية للنساء وتنظر لها نظرة دونية. وبالرغم من تشريع قانون في كرستان يهدف إلى تجريم قتل المرأة غسلاً للعار، إلا أن العشائر تلتف حول هذا القانون وتجبر النساء على الانتحار لأسباب اجتماعية تخص العلاقات العاطفية والوجدانية والتي هي حق أساسي للبشر. وتظل تقارير حقوق الانسان تصعق الرأي العام باعداد النساء المقتولات غسلاً للعار في كردستان، مما يقترب من كونه إبادة جماعية للمرأة. ولا أعتقد أن أوضاعاً كهذه يمكن تسميتها بالازدهار بأي شكل كان، إلا إذا كان المقصود بالازدهار أرقام المبالغ في أرصدة الطبقة الحاكمة وعلى حساب دماء وألم وحرمان الجماهير.
س. أ: هل يمكن أن تحدثينا عن الأعمال والمشاريع التي تقوم بها منظمتكم والتحديات التي تواجهها؟
ي. م: نعتبر أهم مشروع لنا فتحنا لدور إيواء النساء، والذي يمر بعامه الثامن ونفتخر كل الافتخار بان بيوتنا هذه قامت بتقوية دفعات من النساء الشابات وزيادة وعيهن السياسي، مما جعل أهم النساء المشاركات في تظاهرات ساحة التحرير العراقية لعام ٢٠١١ من خريجات دورنا للإيواء. وذلك جعلنا نتوصل إلى نقطة ومفادها، أن المرأة العراقية لا تنقصها الثورية أو الجرأة، إنما هي تحتاج أن تتحرر من القيود الذكورية العشائرية المحيطة بها كخطوة أولى قبل أن تتجه للعمل السياسي الثوري وتبدع به كقائدة مجتمع؛ وعندئذ لا يكون أداؤها أقل من الرجال بأي شكل، إذ كانت خريجات بيوتنا يفتحن صفحات الفيس بوك لمجاميع من الشباب ويوجهونهم بنظرة قيادية أيام تظاهرات ساحة التحرير.
كما ومن مشاريعنا الاخرى الاتصال بنساء مستضعفات في ظل عصابات الاتجار بالنساء، أو الاتجار بالبشر، وعرض فرصة أو بديل ثان لحياة العبودية والاستغلال الجنسي التي يعانين في ظلها، وتعويضهن بحياة جديدة في أوساطنا وفي بيوتنا. ولقد فوجئنا في السنة الاخيرة أن بعض الشركات الخاصة في العراق بدأت تستورد النساء من دول إفريقية كعاملات تنظيف منزلي واللواتي يجدن أنفسهن عرضة لاستغلال جنسي دون قدرة رفع الشكوى إلى الشرطة التي تقوم باستغلالهن من جديد، ولذلك قامت منظمتنا بإنقاذ العديد من النساء الأفارقة من المنازل وإرسالهن الى بيوتهن في بلدانهن، وكان ذلك بالتعاون مع منظمة الهجرة العالمية.
وبدأنا مؤخراً بمبادرة جديدة لإيواء وتمكين المثليين والمثليات وخاصة بعد حملة القتل المنظم التي قادتها الميليشيات القريبة من الدولة ومنذ اليوم المشؤوم ٦ شباط ٢٠١٢. ولذا فان منظمتنا مصرّة على فتح الابواب أمام احترام المثليين في العراق.
كما ونقوم ببثنا الاذاعي على إذاعة المساواة 103.8 الخاصة بمنظمة حرية المرأة في العراق، والتي ننظر لها بمثابة مكبرتنا الصوتية لإيصال أفكارنا المساواتية والتحررية إلى أقاصي المجتمع. ونحرص من خلالها على الترويج للاشتراكية وللمساواة الاقتصادية والاجتماعية، مع التركيز على حرية المرأة والفئات الجندرية الأخرى المتنوعة ومن ضمنها المثليين والجنس الثالث أو الوسطي. وفي إذاعتنا فقرات يومية توصل أصوات ضحايا العنف إلى المجتمع هادفة أن تجلب تغييراً في النظر إلى قضية المرأة وهادفة للتقليل من ذكورية المجتمع ودفعه إلى مواقع ومفاهيم أكثر تحررية. كما وأننا لا نتخوف من الخوض في مسائل سياسية وفي نظرتنا نحن للايديولوجية التي يمكن أن يعيش الانسان بسلام وحرية في ظلها؛ ولذا فإن الطروحات والشخصيات الاشتراكية والتقدمية والعمالية لها مساحة واسعة خلال ساعات بثنا.
ويظل مشروعنا القديم من قدم الاحتلال والحرب، أي جريدة ”المساواة“ والتي صدر أول عدد لها في نيسان ٢٠٠٣، من المشاريع الأكثر طلباً من قبل جمهور المثقفين في العراق. وتنضم له شخصيات نسوية شابة وخاصة في فترة ما بعد الثورات العربية والتي كسرت حاجز الخوف لدى شباب ونساء العراق والعالم العربي اجمع.
وكذلك أيقننا خلال عام ٢٠١١ من الثورات العربية بأن عملنا الاساس هو بناء ذلك الجزء الراديكالي التحرري من حركة نسوية سياسية لا تكتفي بالإصلاحات وإنما ترى في نفسها قيادة لحركة ثورية تسعى لتغيير الاوضاع وإرساء مجتمع المساواة الاقتصادية والاجتماعية، ونرى في تشكيل جمع من النساء اللواتي تتمثل فيهن هذه الرؤية وزيادة أعدادهن بحيث يصبح حضورهن وتأثيرهن واضحاً في المجتمع أقصى طموحنا. ومن الجدير بالقول أن هذا الجمع يرى حرية المرأة جزءاً لا يتجزأ من تحرر المجتمع، ولن يرضين بثورة أو أي تغيير سياسي لا يضع المرأة في أجندته ومن اليوم الأول.