ابتزها جنسياً مقابل "إغاثتها"
هي نازحة سورية. هو مدير مدرسة تستقبل أطفالاً سوريين نازحين. الرجل يتلقى تمويلاً من إحدى اللجان المحلية لإغاثة النازحين في جبل لبنان الجنوبي، والمرأة تقصده طلباً للمساعدة. كان يمكن لصلتهما المحتملة ألا تتخطى الإطار المتوقع، إلا ان نفوذه وهشاشتها حالا دون ذلك. هدّدها بوقف المساعدات عن عائلتها وعدم تغطية استشفاء والدها.. إذا لم تُلب هي وشقيقتها الصُغرى رغباته الجنسية!
تحرش
توجهت رنا (اسم مستعار، 35 عاماً)، للمرة الأولى إلى المدير بعدما سمعت أن المدرسة تطلب عاملة تنظيف براتب مئة وخمسين دولاراً في الشهر. المبلغ زهيد والمهمات دون مستواها العلمي وكفاءاتها المهنية، لكنها لم تتردّد في المحاولة، خصوصاً أن دخل الزوج بالكاد يغطي ثمن الإيجار، ولا يُشبع طفليها.
قابلت رجلاً تلامس أعوامه الخمسين، ذا نبرة صوت حادة، يجلس بثقة خلف المكتب. استقبلها بتهذيب ودعاها إلى مباشرة العمل. أيام أربعة أظهرت لها أن أخلاقه الرفيعة تسقط مع خروج الجالسين من مكتبه. وبمجرد أن يخلو مكتبه حتى يُفرغ مستوعب قذارته على جسدها.
تلقّت الصدمة بسكون حاد، ولكن بعينين يفيض منهما الغضب. فالعين لا تقوى على الرضوخ، وإن أجبرتها ظروفها على ذلك. صارت تتفادى وجوده، محاولةً إنكار ما تسمعه الأذن. لكنه بدا مصراً على إذلالها، مستخدماً "أدوات سطوته".
"لماذا ترفضين الوسيلة التي ستساعدك على جني كثير من المال؟"، سألها بخبث. "اسمعي مني بنص ساعة بتصيري فوق، أنا واصل والسلطة كلها عندي، عرفتي شو؟"، لفظها وهو يلقي قبضته على طاولةٍ تحمّل صورةً له مع أحد زعماء المنطقة. "إن استجبت لطلبي، تصلك المساعدات إلى منزلك بدل أن تتوجهي كل مرة إلى مركز اللجنة". ثم غمزها متفحصاً ثدييها، وبنبرة لا تحتمل التأويل أمرها بالتوجه إلى غرفة التدريس في الطابق الثاني: "طلعي نجرب الغرفة فوق!".
تسارعت نبضات قلبها. أرادت أن تصفعه وأن تبصق في وجهه، لكنها أجابته باحتقانٍ يسبق حالة فقدان السيطرة: "عم اشتغل بالتنظيف لأنه ما بدي صير فوق". ومضت دون أن تتقاضى أجرها على أيام العمل الأربعة.
تحكي وهي جالسة في منزلها أمام المدفئة، بينما أصابع يديها تتعانق بحدّة. كأن غضباً يجتاحها كلما تروي تفاصيل الحادثة: "أذل نفسي من أجل معونة؟ الأموال تأتي باسمنا ولمساعدتنا، هذا حقي!"، مكرّرة بتعابير وجه خائبة: "هذا حقي!".
شرط
الوضع زاد تعقيداً مع وصول والدها مصاباً في قدمه برصاصة قناص في سوريا. خضع لعملية جراحية هناك، إلا ان امكانات المستشفى المحدودة اضطرته إلى النزوح. قصدت رنا مقر "المفوضية العليا للاجئين" وفي يدها تقرير طبيّ يُثبّت وجود التهاب حاد في القدم قد يتسبّب له بشلّل إذا لم يخضع لعملية جراحية. إلا ان المفوضية رفضت التمويل، مبرّرةً أنها لا تُغطي إلا الحالات التي تُهدّد الحياة بمنطق أن الشلّل يُبقي الإنسان حيّاً! هكذا، اكتفت موظفة المفوضية بإحالتها على "اللجنة المحلية" في منطقة السكن، أي اللجنة نفسها التي تموّل مدرسة المدير.
قصدت رنا مقر اللجنة مرات عدة محاولةً مقابلة المسؤول الطبي في "اللجنة". لم تلقَ إلا جواباً واحداً: "مشغول أو غير موجود". في وقت كان والدها يتهالك أمام عينيها، تنام وتستيقظ على أنين أوجاعه. "لا أملك ثمن إجراء صورة إشعاعية له، فكيف استطيع دفع تكاليف عملية!؟"، عبّرت بعينين مثقلتين وهي ترفع شعرها بإهمال.
تزامنت أزمة والدها مع بدء العام الدراسي. لم تجد لابنها مقعداً شاغراً في المدارس المجاورة التي تستقبل النازحين مجاناً. وبين شلل والدها وتسرّب ابنها من المدرسة، شعرت بأن الكبرياء أنانية في ظروف مماثلة. أرغمت نفسها على زيارة المدير برفقة شقيقتها، معتقدةً أن في إمكانها الحصول على مساعدته.. بشروطها.
مع ذلك، أحسّت بالانكسار وهي تخطو ناحيته. استقبلها المدير بحفاوة وهو يحدق بشقيقتها. فسارعت إلى الدخول في هدف الزيارة، عارضةً مشكلة والدها وابنها.
- والدي أصيب برصاص القنص، وهو في حال صحية حرجة ومهدّد بفقدان قدمه! "دخيلك ساعدني".
- أختك تثيرني يا رنا! أين كنت تخفينها؟
لا يشيح نظره عن جسد الشابة العشرينية، تتظاهر بعدم الفهم وتتابع سرد مشكلتها.
- لا أجد مدرسةً تستقبل ابني، أخشى عليه أن يخسر سنة دراسية.
يُقاطعها بصوت عالٍ.
- "بنت" أم امرأة؟
- خاطبة وستتزوج قريباً!
- دعي خطيبها جانباً، أقنعيها بأن تسهر معي السبت وسأحقّق كل ما تطلبينه. أُسجّل ابنك في المدرسة وأُدخل والدك المستشفى (صمت قليلاً). لا تقلقي، سأعيدها لك "بنت" بمئة دولار عند طبيب يخُصني (ملمحاً إلى عملية تقطيب لغشاء البكارة).
أخذ منها نسخة عن جواز سفر الطفل، وسلّمها رقم هاتفه مكتوباً بخط اليد. ثم اتصل بالمسؤول الطبي في اللجنة وهو يبادلها نظرة استعلاء.
- أمامي نازحة اسمها رنا، والدها يحتاج إلى استشفاء. اهتم بأمرها، وحلّ الموضوع سريعاً. المرأة تخصني، عرفت؟ أختها تُجنّني (يضحك بأعلى صوته).
ثم التفت ناحية رنا متوجهاً إليها بالحديث لإتمام "الصفقة" بأوضح الكلام.
- سجلت ابنك في المدرسة. لكن موضوع والدك يبقى رهن الاتصال. فكري في الموضوع، ولا داعي للندم لاحقاً.
هكذا انتهى الحوار، بينما تقف الشابة مستباحة بينهما. "اغتصبها" من دون أن يلمسها. انصرفت متكئةً على كتف شقيقتها، تتقيأ وتشعر بالغثيان. وكأن ما عجزت عن قوله حينها، لفظه جسدها. أصبحت نوبات البكاء لغتها، لا تغادر سريرها ولا تجد فيه إلا الكوابيس والأرق. تستحضره وهو ينقضّ عليها كأنها طريدته، وصوته يقتحم أحلامها تاركاً الصدى "باكلك أكل.. باكلك أكل". تحكي ما مرّ عليها وشموع في المنزل تضيء تفاصيل وجهها الجميل: "كرهت نفسي إني خلقت بنت. ما عاد إلي نفس انظر بالمراية".
واصلت رنا زيارة مركز اللجنة لمتابعة ملف والدها لأكثر من أسبوعين. وقد أصرّت على اصطحاب شقيقتها معها التي كانت تعاند الخروج من المنزل. في تلك الزيارة، اصطدمتا بالمدير وهو يغادر المركز. ارتجفت الشابة ذعراً وشحب وجهها، فأمسكت بذراع رنا بشدة.
اقترب منهما وقال بنبرة هادئة: "اتفاقنا واضح. إن لم تتصل بي شقيقتك، لن يحلّ موضوع والدك. فلتُعد النظر، الأمر يتوقف على اتصال منها، لا أكثر!". لفظ تهديده، من دون أن ينتظر جواباً من إحداهما. أدار ظهره متعالياً، وانصرف. بينما هوت الضحية أرضاً تخاطب والدها والدمع يُغطي وجهها: "كرمالك يا بابا لازم اعمل هيك؟ كرمال رجعلّك إجرك بفقد حالي؟". رفضت الشابة الانصياع لشروطه.
تكتّم
تشي نظرات المدير وكلامه المتملّق مع أخريات أن رنا وشقيقتها ليستا ضحيتيه الوحيدتين. في مكتبه، اشتبهت رنا بنازحات سوريات يخضعن لابتزاز مماثل، لكنها لا تجزم بالأمر. "أنا أول الناس يللي ما بتحكي لحدا"، تُفسّر حال التكتّم السائد. ولم تقبل بالإفصاح عن اسمه والتفاصيل التي تكشف عن هويته. ترغب الضحية بمحاسبة المُعتدي، لكنها تخشى الانتقام. لا القانون سيحميها، ولا المجتمع سيرحم.
لكن المُعادلة تتخطى "المدير" وضحاياه. فوثّقت "منظمة هيومان رايتس ووتش" في تقرير لها تعرض اثنتي عشرة نازحة سورية في لبنان لانتهاكات جنسية من جانب ملاك العقارات وأحد موظفي هيئة إغاثة محلية. ولم تُبلّغ النساء السلطات خوفاً من انتقام المتحرشين أو من الاعتقال لعدم حيازتهن وثائق السفر والإقامة اللازمة.
فظروف الابتزاز حاضرة في موازين القوى بين المُعتدين والمُعتدى عليهن. يمتلك الرجل، "ابن المنطقة"، حنكة الكلام وقدرةً مادية ونفوذاً سياسياً وعلاقات.. تُمكّنه من استغلال نساء قصمت الحرب ظهورهن، وأضعفهن النزوح. الأمر يتوقف إذاً على أخلاقه. فلا آليات تُحاسب "النافذين" ولا تدابير تحمي "المستضعَفات". يعبث بهن كيفما شاء، من دون أن يمّس أحد صورته كـ"فاعل خير" في المنطقة.
تغيب الأطر الحكومية عن مراقبة عمل المنظمات الدولية والمحلية في إغاثة النازحين السوريين، بل ترفض الاعتراف والتعامل مع النزوح السوري بشكل منهجيّ. فتُحاول الجمعيات المحلية والأحزاب المُهيمنة في مختلف المناطق سدّ الفراغ الرسمي بمنطق "زبائني" أحياناً، وإن بأشكال غير مُعلنة. وتتعامل المنظمات الدولية مع تلك الأطر، في كثير من الأحيان، كـ"أمر واقع لبنانيّ"، تتكيّف معه وتصمت عن انتهاكاته. وقد أسّست بعض المناطق التي تستقبل نازحين لجاناً محلية للإغاثة، تُسيطّر عليها فعاليات حزبية وسياسية، وتُشكّل أحياناً صلة الوصل بين المنظمات الدولية والجمعيات والمراكز الحكومية من جهة، والنازحين من جهة أخرى. في ظروف مماثلة، لا تعود الانتهاكات الجنسية بحق النازحات "حالات" و"حوادث"، بل تصبح كل صلة محتملة بين "ابن منطقة" و"نازحة" مشروع ابتزاز جنسيّ!
كارول كرباج