الحماية تمكين: العنف السياسي ومساهمته في إنتاج العنف ضد النساء والأطفال

المرفقالحجم
الحماية تمكين (1).doc802.5 كيلوبايت

عائشة والعنف السياسي

في إحدى استمارات مركز الاستماع لضحايا العنف من النساء في فرع اتحاد نساء اليمن بأبين، كتب في الخانة المخصصة لتصنيف نوع العنف كلمة (هروب). لأول وهلة، يثير تصنيف الهروب كأحد أنواع العنف حيرة لدى الباحث، إذ لم تتم الإشارة إلى الهروب كأحد أنواع العنف في التعريف الدولي أو في التقارير الوطنية. إلا أنه وبعد قراءة تفاصيل واقعة العنف في نفس الاستمارة أتضح أن المعنفة والتي سنطلق عليها هنا اسم "عائشة" هي امرأة أمية متزوجة من رجل فقير ولديهما أطفال. كانت عائشة تتعرض للطم والضرب بالأيدي من قبل زوجها كلما حاولت حماية أطفالها من ضرب الزوج إلى أن رأت الهرب من المنزل مع أطفالها كحل لإنهاء عنف الزوج عليها وعلى أطفالها. بلغ الزوج الشرطة عن هروب الزوجة، الأمر الذي أدى برجال شرطة إحدى نقاط التفتيش بين محافظتي عدن وأبين إلى القبض عليها تحت تهمة "الهروب"، هكذا سجل عنوان التهمة على ملف عائشة. 

وسواء كان تصنيف الهروب خطأ تقنيا ارتكبته المستمعة وهي توثق قصة العنف، أم كان شعورها الذي نقلته إليها عائشة، أم أنها إجابة عائشة المباشرة عند سؤال المستمعة لها عن نوع العنف الذي تعرضت له، فلقد أتى تصنيف الهروب من قبل المرأتين كعنف ترجمة أو تعبيرا شخصيا "واعيا" عن الظلم الذي سببه إقصاء القانون لحقوق النساء وعدم الاعتراف بمواطنتهن الكاملة. فقانون الأحوال الشخصية الذي يجعل استئذان الزوج عند الخروج من المنزل شرطا للطاعة في مادته (42)، يفهم شعبيا كامتياز قانوني للرجل على المرأة في كل الجوانب. كما أن مادة الفعل الفاضح (173) في قانون الجرائم والعقوبات الفضفاضة قد سهلت لأمراء القبض اعتبار خروج المرأة للشارع ليلا أو سفرها دون محرم جريمة فعل فاضح. وهذا ما حدث لعائشة. ولو كانت المرأتان في وضع معرفي أكثر حظا لكتب في الخانة "عنف سياسي". ويقصد به "عنف الدولة" الذي تمارسه عبر منظومة من القوانين والتشريعات والسياسات والممارسات التمييزية ضد النساء. تعدّ قصة عائشة مع العنف العائلي، وامتداده إلى مؤسسات الدولة متمثلة بالقانون ومنفذيه، نموذجا لانتهاك حق الفرد، بغض النظر عن عمره أو جنسه أو وضعه الاجتماعي، في الحماية التي تعتبر الدولة المسؤولة عن توفيره بالدرجة الأساس. لقد غاب دور المدرسة في الحد من الانتهاكات الواقعة على أطفالها، كما غابت مؤسسات الرعاية الاجتماعية في توفير مكان آمن لهم غير الشارع. أما برامج التنمية الاقتصادية فلم يكن لها أي شأن في تحسين الحالة المعيشية للأسرة. وكون الزوج هو رب الأسرة لـ 87% من العائلات اليمنية، وهو العائل الوحيد في الأسرة المسؤول عن توفير الملجأ ومتطلبات المعيشة، فقد مُكن رسميا ـ وإن كان معنِفاـ بجملة من الحقوق المنصوص عليها في القانون، منها الولاية والطاعة، تحت عملية مقايضة مررت الدولة فيها مسؤوليتها في توفير الرعاية الاقتصادية والاجتماعية للأفراد وخاصة الأطفال والنساء. إلا أن هذا الوضع كان من الممكن تقويضه إذا كان الزوجة والأطفال يتمتعون بحماية قانونية أفضل من قبل الدولة. أي بحقوق متكاملة تمكنهم من النشوء والتطور والنشاط كأفراد أقوياء يصلون للتعليم، والعمل، والرعاية والحماية الاجتماعية، والمشاركة السياسية والمدنية. حينها كان من الممكن أن تتمتع عائشة وأطفالها بندية مساوية أمام الزوج تمنعه من ممارسته العنف. ضمن سياق اجتماعي- ثقافي، لم تتدخل السياسية والقوانين في تغييره، بل أكدت عليه، حرمت عائشة من التعليم والعمل وإنتاج الدخل، فضعفت قدرتها على اتخاذ القرار وعلى حماية أطفالها ونفسها من العنف. ثم باتوا عبارة عن هويات فردية مجروحة ونازفة اجتماعيا وسياسيا، غير قادرين على متابعة حياتهم كما يفعل الأصحاء.